لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما يئس من رحمته ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العذاب ما طمع في جنته أحد
بقلم: أخوكم عمر السلفي
السموات والأرض مسلمة لله:
لا يوجد من خلق الله خارج عن الطاعة الاختيارية إلا كفار الجن والإنس فقط من جميع الموجودات، وأما سائرها فهي مسلمة لله طوعاً.
فالجمادات التي لا نعلم نحن لها إرادة، ولا نرى لها سمعاً ولا بصراً، الحق أن لها إرادة ولها سمع وبصر وحس وإدراك، يعلمه منها خالقها سبحانه وتعالى.
فالرب سبحانه وتعالى يخاطبها بخطاب العقلاء، ويأمرها وينهاها، وهي ممتثلة له بإرادتها واختيارها، ولها من الأحاسيس المرهفة ما لا يوجد في الإنسان الكافر الذي أظلمت نفسه وفسد حسه، وانطمست بصيرته، وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه خاطب السموات والأرض يوم خلقها، وأنها أجابته سبحانه وتعالى ممتثلة لأمره. قال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءاً للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين* فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم} قالتا: أتينا طائعين بجمع المذكر السالم الذي يستعمل للعاقل ولم تقولا أتينا طائعات.
وقال تعالى: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت} ومعنى أذنت: أي استمعت.
وقال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله}.
وقال صلى الله عليه وسلم: [هذا أحد جبل يحبنا ونحبه].
وقال صلى الله عليه وسلم: [إني لأعلم حجراً كان يسلم علي وأنا بمكة]، وكان الصحابة يسمعون تسبيح الحصا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع نخلة فلما صنع له المنبر وقام الرسول عليه في أول جمعة، بكى الجذع وصرخ صراخاً سمعه أهل المسجد، ونزل النبي من المنبر وأتى الجذع فالتزمه.. الخ، وأدلة إدراك هذه الجمادات أكثر من أن تذكر هنا ويكفيك فيها قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}.
وقوله تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}.
وقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفوراً}.
وهكذا فالخلائق جميعها ربها واحد، وإلهها واحد، وهو الله سبحانه وتعالى الذي لا رب لهم سواه ولا إله لهم غيره. ولم يشذ عن الطواعية لله، وعبادته اختياراً إلا كفار الإنس والجن فقط دون سائر ما خلق الله في السموات والأرض، وخروج هؤلاء الكفار من الإنس والجن عن طاعة الله اختياراً لا يعني أنهم غير مسلمين لله قهراً وجبراً، وكرهاً، وذلك أنهم مسلمون له سبحانه وتعالى بالجبر والكره، فمشيئة الله نافذة فيهم، وقضاؤه وقدره حتم عليهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لهم لم يكن، ولا مشيئة لأحد منهم إلا أن يشاء الله، فهو الذي شاء أن يضلوا ويكفروا، ولو شاء أن يهديهم لهداهم، ولو شاء ألا يكفروا لما كفروا، ولو شاء ألا يشركوا به ما أشركوا، ولكنه خذلهم وحرمهم الهداية لأنهم لا يستحقونها، وليسوا أهلاً لها. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون* قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}..
الرحمن، وليس لرحمته منتهى
لا يمكن للعباد أن يعرفوا الله علي الحقيقة، وأن يؤمنوا به الإيمان الصحيح إلا إذا علموا أن الرب سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم.
وما لم يعلم العباد هاتين الصفتين على الحقيقة يضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. قال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}..
وقال صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما يئس من رحمته أحد، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العذاب ما طمع في جنته أحد]!!
بهاتين الجملتين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الإيمان بصفات الجمال والجلال للرب العظيم سبحانه وتعالى، واختصر الطريق أمام من يريد أن يعرف صفات الرب على الحقيقة.
من أسماء الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم، وكل أسماء الله حق، وكل اسم لله فإن الله سبحانه وتعالى يتصف بمعناه حقيقة على النحو الذي يليق به سبحانه وتعالى، وكذلك كل صفة وصف بها نفسه سبحانه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يتصف بها على الحقيقة، وعلى النحو الذي يليق بالله سبحانه وتعالى.
ومن صفات الجمال لله جل وعلا أنه الرب الرحمن الرءوف الرحيم، والحليم الكريم، الغفور الودود، التواب، البر الرحيم، الولي الحميد، السميع العليم، ومن آثر صفاته هذه الجنة وما أعد فيها لأوليائه وأهل طاعته..
ومن صفات جلاله وعظمته وكبريائه أنه سبحانه وتعالى الملك العظيم الجبار المتكبر، القهار المنتقم شديد العقاب، صاحب الطول الذي يؤاخذ بالذنب ويعاقب على المعصية، ومن آثار صفاته هذه خلق النار، وما أعد فيها لأهل معصيته وانزال عذابه وغضبه في أهل الكبر والكفر والعصيان.
وللمعرفة التفصيلية بهاذين النوعين من الصفات نقول:
الرحمن الرحيم:
الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وقد وسعت رحمته كل خلقه بإيجادهم: فالوجود في حد ذاته رحمة بالموجود، وما يسره لكل موجود من أسباب حياته وبقائه،ولطفه وعنايته، ودفع الضر عنه، وإنعام الله على كل موجود لا يمكن حصرها، ولا يسع مخلوق تعدادها. قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} وقال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} وقال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}.
الجواد الكريم:
ومن معاني رحمته سبحانه وتعالى أنه الجواد الكريم الذي لا حد لعطائه، ولا نهاية لإنعامه وإفضاله، ومهما كان سؤال العبد له وطلبه منه، فإنه يعطيه، ولا يثقله سبحانه العطاء، ولا يتبرم بالسؤال، بل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يلحوا في السؤال، وأن يطلبوا المزيد كلما أعطوا، قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}.
وهذه دعوة منه جل وعلا لعباده ليسألوه. وذلك أن فقر العباد إليه جبلي خلقي فلا يوجد مخلوق قط في السموات والأرض يستطيع أن يستغني في وجوده أو بقائه عن إلهه ومولاه طرفة عين.
وأما الرب سبحانه وتعالى فإنه غني بذاته عن جميع خلقه، ولا يحتاج إلى أحد منهم، ولا إلى شيء من مخلوقاته مهما عظم، فلا العرش ولا الكرسي ولا السموات ولا الأرض ولا الملائكة، ولا الإنس ولا الجن بنافعين الرب شيئاً، ولا الرب سبحانه وتعالى محتاج إلى شيء منهم، ولا مستعيناً بهم، تعالى الله أن يحتاج إلى غيره، أو يفتقر إلى سواه، بل الله موجد هذه الموجودات ومقيمها وهو يعدمها إذا شاء، وهو الذي يبقيها إذ أراد، ويحولها إذا شاء.
فليس له من عباده في السموات والأرض معين ولا ظهير {وماله فيهما من شرك وماله منهم من ظهير}.
وملك الله سبحانه وتعالى غير محدود وكذلك عطاؤه وإنعامه وإفضاله غير محدود كذلك، فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعطي سبحانه وتعالى وهو يحب العطاء بل ويطلب من عباده أن يسألوه، ولا يملوا من سؤاله، وكلما سألوه كلما أحبهم، وقربهم وأعطاهم.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الدنيا والآخرة {وإن لنا للآخرة والأولى} ولكنه أعلم عباده أن الدنيا فانية، وأن سبحانه وتعالى لم يخلقها للبقاء، وإنما خلقها مدة قليلة من الزمن للابتلاء والاختبار، ولذلك جعل أرزاقها مناسبة للمهمة والغاية التي خلقها لها، فلم يبسط رزقها بسطاً يشغل المؤمنين والكافرين عن طاعته: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغو في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} ووسع في الحياة على من يشاء من أهل طاعته وأهل معصيته اختباراً وابتلاءاً لهذا وهذا، وضيق على من يشاء من أهل طاعته وأهل معصيته اختباراً وابتلاءاً لهما كذلك وأراد سبحانه وتعالى من عباده أن تتعلق همتهم بنعيم الآخرة إذ هو النعيم الباقي، وأن يكونوا في الدنيا على أهبة الاستعداد للرحيل، وألا يجمعوا من الحطام ما يشغلهم عن المهمة التي خلقوا لها، والاختبار الذي أقيموا فيه: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}.
ولما رأى أهل العمى والضلال أن الأرزاق في الدنيا قد تقل أحياناً عن حاجة العباد ظنوا هذا بخلاً من الله على خلقه كما قالت اليهود: {يد الله مغلولة} أي أنه بخيل. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
بل الله سبحانه وتعالى هو الجواد الكريم، وكل نعمة بالعباد فهي منه وحده جل وعلا، ولكنه لم يشأ بسط الرزق للناس في الدنيا حتى لا يطغيهم الغنى.. {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} وحتى يلجئوا إلى ربهم وخالقهم ومولاهم عند ضرهم وفقرهم واحتياجهم.. فإن الشدائد تذكر بالله، وتلجئ العباد إليه، وهذا خير لهم. قال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون} فأخذ الله عباده بالبأساء وهي الشدة والفقر، والضراء كالمرض ونحوه ليرجعوا إلى ربهم ويتضرعوا له، وهذا خير لهم أن يغدق عليهم النعم طيلة حياتهم فيلتهوا وينشغلوا بما هم فيه من النعيم عن معادهم، وحسابهم. قال تعالى: {ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} فالشدائد والمصائب مما يبتلى الله به عباده في الدنيا هي من باب إحسانه إلى عباده، وإنعامه عليهم لأنها تربية وتذكير وتقويم وتعليم وتعريف بخالقهم وإلههم وموالهم، ليلجئوا إليه ويسألوه النعيم الباقي والحياة السرمدية الأبدية التي لا تنتهي في جنان الخلد، والنعيم..
الجنة أثر من آثار رحمته:
وهنا يتجلى كرم الرب ورحمته وإحسانه وسعه عطائه، فإن أقل العباد منزلة في الجنة من يعطيه الله ملكاً يوازي عشرة أمثال الأرض التي نعيش عليها، وفيها من الجنان والقصور والحور والأنهار، والأثاث والزخارف والبهجة والسرور ما لا يبلغه الوصف، ولا يفنيه جميع البشر لو اجتمعوا على ملك واحد منهم فقط، بل إن قطفاً واحداً من قطاف الجنة لا يفنيه البشر ولو اجتمعوا عليه، وكل هذا لعبد واحد من عباد الله هو أدناهم منزلة، وأقلهم درجة، فكيف بأعلاهم درجة ومنزلة؟!
ومن العباد من يكون له في الجنة بيوتاً لا يحصيها العد فإن من قرأ سورة الإخلاص عشر مرات بنى الله لها بيتاً في الجنة.
وإن من العباد من يقرأها كل يوم آلاف المرات، وقد قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث: يا رسول الله هل نكثر؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الله أكثر] فعطاء الله عباده المؤمنين أكبر وأكثر مما يتصور ويتخيل، بل إن ما ادخره الله لهم وأخفاه عن عيون كل الخلائق وأسماعهم بل وقلوبهم حيث لا يخطر مثله في قلب بشر، هذا الذي ادخره الله لعباده وأخفاه عن كل خلقه أعظم وأكبر وأجل من كل ما أخبرهم الله به من النعيم، وما وصفه لهم. قال صلى الله عليه وسلم: [قال تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر].
وأهل هذا النعيم آلاف مؤلفة مما لا يحصيهم إلا الله الذي خلقهم وهداهم، سبحانه وتعالى فإن للجنة ثمانية أبواب ما بين مصراعي الباب كما بين مكة وهجر (البحرين)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على هذه الأبواب يوم وهي كظيظة من الزحام!! وكل ينال في الجنة موقعاً أدناه قدر الأرض وعشره أمثالها. قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}.
وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
أعظم ما في الجنة الخلود:
هؤلاء الذين يدخلون الجنة والذين لا يحصيهم العد، والذين ينال كل منهم هذا الملك العريض في الجنة، يبقون فيها بقاءاً سرمدياً، لا ينقطع ولا يحول أبداً. فهم فيها مخلدون خلوداً لا انقطاع له، فهل يمكن تصور هذا وتخيله؟! وهل يمكن تصور مدى النعيم والسعادة والحبور الذي يعيش فيه أهل الجنة حيث هذا الملك العريض لكل واحد منهم، وحيث الثمار التي لا تفنى، والثياب التي لا تبلى، والشباب الذي لا ينقضي، والمتعة الدائمة بالزوجات المطهرات، والشراب الذي لا ثمول فيه، والأصحاب الصالحون، والطعام الذي لا أثر له، ولباس الحرير مع غاية السرور والحبور والرضى، مع حضور كل ما يشتهون، ويدعون وتحقق كل ما يرغبون ويتمنون في التو والساعة دون عناء أو مشقة، بل في أقل من لمح البصر يحضر ما يتمناه أحدهم، بل ما يخطر على باله يكون أمامه في التو واللحظة!! هذا وهم مع هذا لا يمرضون ولا يبصقون، ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتنخمون، وإنما تخرج آثار طعامهم رشحاً وعرقاً على أجسادهم أطيب من المسك!!
وهم على هذه الحال أبداً وسرمداً لا يكدرهم فقد عزيز، ولا فراق أو رحيل، بل لا يسمعون كلمة واحدة تكدر خاطرهم، أو تزعجهم {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاما}، ومع ذلك فهم يتمازحون ويضحكون على مجالس الشراب واللهو، بلا لغو ولا تأثيم ولا سباب {يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم}.
وهم على هذه الأحوال من السعادة والحبور ينتقلون من نعيم إلى نعيم، ويتقلبون في المسرات وكل مسرة أعظم من أختها، وهم في كل ذلك لا يخافون أن تتبدل أحوالهم، ولا أن يقطع الرب عنهم ما هم فيه من السعادة والسرور والحبور.
وهذا كله قطرة من عطاء الرب الذي لا ينفذ وكرمه الذي لا يحصر، وملكه الذي لا يحد.
وهذا الإكرام والإنعام الذي يتفضل الله به على عباده المؤمنين هو ثمرة من ثمرات أسمائه وصفاته فهو من معاني اسمه الرحمن الرحيم الجواد الكريم البر الرحيم.
أعجب صفات الرب أنه التواب الرحيم:
ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه التواب الرحيم فإن هؤلاء المنعمون في الجنة هذا النعيم المقيم والذين يكرمهم الله هذا الإكرام الذي لا يحده الوصف، ولا يحيط به الخيال، منهم من كان قد سب الله وشتمه، واعتدى على أنبيائه ورسله، وقتل أولياءه وحزبه، بل وحرقهم بالنار، ومنهم من كان ارتكب الكبائر، وفعل المنكرات والموبقات!! ولكن تداركته رحمة ربه قبل موته فأقلع عن ذنبه، واستغفر ربه وتاب من أفعاله المنكرة القبيحة، واستقام في آخر عمره ولو ساعة من نهار، كانت كافية في أن يهدم الله جميع ما سلف منه من الكفر والشرك والمعاصي والآثام، وأن يقابله الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والمسامحة، وستر كل هذه العيوب، بل ومجازاته على سيئاته تلك حسنات. قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}.
فانظر ما أكرم هذا الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم حلمه ورحمته، كيف يكرم هذا الإكرام الزائد من عصاه وآذاه، وسبه وشتمه؟! وانظر كيف حلم عليه في الدنيا، فلم يؤاخذه بذنبه، وكيف ألهمه رشده بعد ذلك، وآتاه تقواه، ويسر له سبيل الاعتذار ثم قبل منه!! وقابله بسيئاته حسنات، وبذنوبه مغفرة، إنه الرب العظيم الرءوف الرحيم، الودود التواب، الذي يقيل العثرة ويغفر الذنب.
فقير ضعيف مدفوع عن الأبواب ويحبه الله:
ومن معاني رحمته سبحانه وتعالى أن تجد عبداً ضعيفاً متضعفاً، فقيراً مسكيناً مدفوعاً عن أبواب الناس لذلته وفقره وعجزه، وقله حيلته، ويهون على الناس أذاه وظلمه، ودفعه عن أبوابهم، وقد يكون هذا العبد الذليل الفقير ولياً لله، عبداً صالحاً له من الكرامة على الله بحيث أنه لو أقسم على الله لأبره!! ولو سأل الله ما رده!! قال صلى الله عليه وسلم: [رب أشعث أغبر مدفوع عن الأبواب لو أقسم على الله لأبره].
ومثل هذا العبد يكلؤه الله بعناية تفوق الوصف في الدنيا ويعادي الله من أجله أهل الأرض كلهم لو اجتمعوا على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: [قال تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة].
ومثل هذا العبد لأن تزول السموات والأرض أهون عند الله من إراقة دمه!!
فانظر في صفات هذا الرب العظيم الكبير وفي العرش المجيد الذي لا يحد سلطانه، ولا يبلغ أحد مطاولته، ومغالبته، وكل الخلائق تحت قهره وأمره، وكيف يحتفى بعبد فقير ضعيف يهون على الناس دفعه وأذاه ولو توجه بالدعاء أن يهلك الله من عليها من الكفار لما رد الله سؤله.. وقد قال نوح عليه السلام يوماً: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} فجاءه الجواب {ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون} ودعا خبيب بن عدي على من اجتمعوا عليه ليقتلوه بمكة [اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً] فلم يبق الله منهم أحداً إلا أخذه القتل كافراً.
وقال موسى عليه السلام قبل ذلك: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}.
فجاءه الجواب: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}.
وقد كان نوحاً منبوذاً في قومه يقال له: {إنا لنراك في ضلال مبين} وقيل له: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين}.
وأما موسى فقد كان من قوم قال عنهم أعداؤهم: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} وكانوا تحت ذل أعدائهم الكفار وقهرهم.
إحسان الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين وأهل طاعته لا يحده الوصف، ولا تبلغه الكلمات، ولا يحصيه العد، وكل ذلك أثر من آثار صفات رحمته جل وعلا..
فهو الرحمن الرحيم، الغفور والودود الجواد الكريم المنان الذي ليس لبركته منتهى، ولا لعطائه حد ولا لإحسانه غاية.
[b]